skip to main |
skip to sidebar
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) النور
أعقب حكم الاستئذان ببيان آداب ما تقتضيه المجالسة بعد الدخول وهو أن لا يكون الداخل إلى البيت محدقاً بصره إلى امرأة فيه بل إذا جالسته المرأة غض بصره واقتصر على الكلام ولا ينظر إليها إلا النظر الذي يعسر صرفه .
ولما كان الغض التام لا يمكن جيء في الآية بحرف { من } الذي هو للتبعيض إيماء إلى ذلك إذ من المفهوم أن المأمور بالغض فيه هو ما لا يليق تحديق النظر إليه وذلك يتذكره المسلم من استحضاره أحكام الحلال والحرام في هذا الشأن فيعلم أن غض البصر مراتب : منه واجب ومنه دون ذلك ، فيشمل غض البصر عما اعتاد الناس كراهية التحقق فيه كالنظر إلى خبايا المنازل ، بخلاف ما ليس كذلك فقد جاء في حديث عمر بن الخطاب حين دخل مشربة النبي صلى الله عليه وسلم « فرفعت بصري إلى السقف فرأيت أهَبَةً معلقة » .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي : « لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية » .
وفي هذا الأمر بالغض أدب شرعي عظيم في مباعدة النفس عن التطلع إلى ما عسى أن يوقعها في الحرام أو ما عسى أن يكلفها صبراً شديداً عليها .
والغض : صرف المرء بصره عن التحديق وتثبيت النظر . ويكون من الحياء كما قال عنترة
: ... وأغض طرفي حين تبدو جارتي
حتى يواري جارتي مأواها ...
ويكون من مذلة كما قال جرير
: ... فغض الطرف إنك من نمير
ومادة الغض تفيد معنى الخفض والنقص .
والأمر بحفظ الفروج عقب الأمر بالغض من الأبصار لأن النظر رائد الزنى . فلما كان ذريعة له قصد المتذرع إليه بالحفظ تنبيهاً على المبالغة في غض الأبصار في محاسن النساء . فالمراد بحفظ الفروج حفظها من أن تباشر غير ما أباحه الدين .
واسم الإشارة إلى المذكور ، أي ذلك المذكور من غض الأبصار وحفظ الفروج .
واسم التفضيل بقوله : { أزكى } مسلوب المفاضلة . والمراد تقوية تلك التزكية لأن ذلك جنة من ارتكاب ذنوب عظيمة .
وذيل بجملة : { إن الله خبير بما يصنعون } لأنه كناية عن جزاء ما يتضمنه الأمر من الغض والحفظ لأن المقصد من الأمر الامتثال .
{ وَقُل للمؤمنات يَغْضُضْنَ مِنْ أبصارهن وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بنى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أخواتهن أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهن أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِى الإربة مِنَ الرجال أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عورات النسآء } .(31)
أردف أمر المؤمنين بأمر المؤمنات لأن الحكمة في الأمرين واحدة ، وتصريحاً بما تقرر في أوامر الشريعة المخاطب بها الرجال من أنها تشمل النساء أيضاً . ولكنه لما كان هذا الأمر قد يظن أنه خاص بالرجال لأنهم أكثر ارتكاباً لضده وقع النص على هذا الشمول بأمر النساء بذلك أيضاً .
وانتقل من ذلك إلى نهي النساء عن أشياء عرف منهن التساهل فيها ونهيهن عن إظهار أشياء تعوّدْن أن يحببن ظهورها وجمعها القرآن في لفظ الزينة بقوله : { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } .
والزينة : ما يحصل به الزين . والزين : الحسن ، مصدر زانه . قال عمر بن أبي ربيعة :
جلل الله ذلك الوجه زَيْناً
يقال : زين بمعنى حسن ، قال تعالى : { زين للناس حب الشهوات } في سورة آل عمران ( 14 ) وقال : { وزيناها للناظرين } في سورة الحجر ( 16 ) .
والزينة قسمان خِلقية ومكتسبة . فالخلقية : الوجه والكفان أو نصف الذراعين ، والمكتسبة : سبب التزين من اللباس الفاخر والحلي والكحل والخضاب بالحناء . وقد أطلق اسم الزينة على اللباس في قوله تعالى : { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد } [ الأعراف : 31 ] وقوله : { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده } في سورة الأعراف ( 32 ) ، وعلى اللباس الحسن في قوله { قال موعدكم يوم الزينة } [ طه : 59 ] . والتزين يزيد المرأة حسناً ويلفت إليها الأنظار لأنها من الأحوال التي لا تقصد إلا لأجل التظاهر بالحسن فكانت لافتة أنظار الرجال ، فلذلك نهى النساء عن إظهار زينتهن إلا للرجال الذين ليس من شأنهم أن تتحرك منهم شهوة نحوها لحرمة قرابة أو صهر .
واستثني ما ظهر من الزينة وهو ما في ستره مشقة على المرأة أو في تركه حرج على النساء وهو ما كان من الزينة في مواضع العمل التي لا يجب سترها مثل الكحل والخضاب والخواتيم .
وقال ابن العربي : إن الزينة نوعان : خلقية ومصطنعة . فأما الخلقية : فمعظم جسد المرأة وخاصة : الوجه والمعصمين والعضدين والثديين والساقين والشعر . وأما المصطنعة : فهي ما لا يخلو عنه النساء عرفاً مثل : الحلي وتطريز الثياب وتلوينها ومثل الكحل والخضاب بالحناء والسواك . والظاهر من الزينة الخلقية ما في إخفائه مشقة كالوجه والكفين والقدمين ، وضدها الخفية مثل أعالي الساقين والمعصمين والعضدين والنحر والأذنين . والظاهر من الزينة المصطنعة ما في تركه حرج على المرأة من جانب زوجها وجانب صورتها بين أترابها ولا تسهل إزالته عند البدوّ أمام الرجال وإرجاعه عند الخلو في البيت ، وكذلك ما كان محل وضعه غير مأمور بستره كالخواتيم بخلاف القرط والدمالج .
واختلف في السوار والخلخال والصحيح أنهما من الزينة الظاهرة وقد أقر القرآن الخلخال بقوله : { ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن } كما سيأتي . قال ابن العربي : روى ابن القاسم عن مالك : ليس الخضاب من الزينة اه ولم يقيده بخضاب اليدين . وقال ابن العربي : والخضاب من الزينة الباطنة إذا كان في القدمين .
فمعنى { ما ظهر منها } ما كان موضعه مما لا تستره المرأة وهو الوجه والكفان والقدمان .
وفسر جمع من المفسرين الزينة بالجسد كله وفسر ما ظهر بالوجه والكفين قيل والقدمين والشعر . وعلى هذا التفسير فالزينة الظاهرة هي التي جعلها الله بحكم الفطرة بادية يكون سترها معطلاً الانتفاع بها أو مدخلاً حرجاً على صاحبتها وذلك الوجه والكفان ، وأما القدمان فحالهما في الستر لا يعطل الانتفاع ولكنه يعسره لأن الحفاء غالب حال نساء البادية . فمن أجل ذلك اختلف في سترهما الفقهاء؛ ففي مذهب مالك قولان : أشهرهما أنها يجب ستر قدميها ، وقيل : لا يجب ، وقال أبو حنيفة : لا يجب ستر قدميها ، أما ما كان من محاسن المرأة ولم يكن عليها مشقة في ستره فليس مما ظهر من الزينة مثل النحر والثدي والعضد والمعصم وأعلى الساقين ، وكذلك ما له صورة حسنة في المرأة وإن كان غير معرى كالعجيزة والأعكان والفخذين ولم يكن مما في إرخاء الثوب عليه حرج عليها . وروى مالك في «الموطأ» عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات لا يدخلن الجنة " قال ابن عبد البر : أراد اللواتي يلبسن من الثياب الخفيف الذي يصف ولا يستر ، أي هن كاسيات بالاسم عاريات في الحقيقة اه . وفي نسخة ابن بشكوال من «الموطأ» عن القنازعي قال فسر مالك : إنهن يلبسن الثياب الرقاق التي لا تسترهن اه . وفي سماع ابن القاسم من «جامع العتبية» قال مالك : بلغني أن عمر بن الخطاب نهى النساء عن لبس القباطي . قال ابن رشد في «شرحه» : هي ثياب ضيقة تلتصق بالجسم لضيقها فتبدو ثخانة لابستها من نحافتها ، وتبدي ما يستحسن منها ، امتثالاً لقوله تعالى : { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } اه . وفي روايات ابن وهب من «جامع العتبية» قال مالك في الإماء يلبسن الأقبية : ما يعجبني فإذا شدته عليها كان إخراجاً لعجزتها .
وجمهور الأئمة على أن استثناء إبداء الوجه والكفين من عموم منع إبداء زينتهن يقتضي إباحة إبداء الوجه والكفين في جميع الأحوال لأن الشأن أن يكون للمستثنى جميع أحوال المستثنى منه . وتأوله الشافعي بأنه استثناء في حالة الصلاة خاصة دون غيرها وهو تخصيص لا دليل عليه .
ونُهِين عن التساهل في الخِمرة . والخمار : ثوب تضعه المرأة على رأسها لستر شعرها وجيدها وأذنيها وكان النساء ربما يسدلن الخمار إلى ظهورهن كما تفعل نساء الأنباط فيبقى العنق والنحر والأذنان غير مستورة فلذلك أُمرْنَ بقوله تعالى : { وليضربن بخمرهن على جيوبهن } .
والضرب : تمكين الوضع وتقدم في قوله تعالى : { إن الله لا يستحيِ أن يضرب مثلاً } في سورة البقرة ( 26 ) .
والمعنى : ليشددن وضع الخمر على الجيوب ، أي بحيث لا يظهر شيء من بشرة الجيد .
والباء في قوله { بخمرهن } لتأكيد اللصوق مبالغة في إحكام وضع الخمار على الجيب زيادة على المبالغة المستفادة من فعل { يضربن } .
والجُيوب : جمع جيب بفتح الجيم وهو طوق القميص مما يلي الرقبة . والمعنى : وليضعن خمرهن على جيوب الأقمصة بحيث لا يبقى بين منتهى الخمار ومبدأ الجَيب ما يظهر منه الجيد .
وقوله : { ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن } أعيد لفظ { ولا يبدين زينتهن } تأكيداً لقوله { ولا يبدين زينتهن } المتقدم وليبني عليه الاستثناء في قوله : { إلا لبعولتهن } إلخ الذي مقتضى ظاهره أن يعطف على { إلا لبعولتهن } لبعد ما بين الأول والثاني ، أي ولا يبدين زينتهن غير الظاهرة إلا لمن ذُكروا بعد حرف الاستثناء لشدة الحرج في إخفاء الزينة غير الظاهرة في أوقات كثيرة ، فإن الملابسة بين المرأة وبين أقربائها وأصهارها المستثنين ملابسة متكررة فلو وجب عليها ستر زينتها في أوقاتها كان ذلك حرجاً عليها .
وذكرت الآية اثني عشر مستثنى كلهم ممن يكثر دخولهم . وسكتت الآية عن غيرهم ممن هو في حكمهم بحسب المعنى . وسنذكر ذلك عند الفراغ من ذكر المصرح بهم في الآية .
والبعولة : جمع بعل . وهو الزوج ، وسيد الأَمَة . وأصل البعل الرب والمالك ( وسمي الصنم الأكبر عند أهل العراق القدماء بعْلاً وجاء ذكره في القرآن في قصة أهل نينوى ورسولهم إلياس ) ، فأطلق على الزوج لأن أصل الزواج ملك وقد بقي من آثار الملك فيه الصداق لأنه كالثمن . ووزن فعولة في الجموع قليل وغير مطرد وهو مزيد التاء في زنة فعول من جموع التكسير .
وكل من عد من الرجال الذين استُثْنوا من النهي هم من الذين لهم بالمرأة صلة شديدة هي وازع من أن يهموا بها . وفي سماع ابن القاسم من كتاب «الجامع من العتبية» : سئل مالك عن الرجل تضع أم امرأته عنده جلبابها قال : لا بأس بذلك . قال ابن رشد في «شرحه» : لأن الله تعالى قال : { وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن } الآية ، فأباح الله تعالى أن تضع خمارها عن جيبها وتبدي زينتها عند ذوي محارمها من النسب أو الصهر ا ه . أي قاس مالك زوج بنت المرأة على ابن زوج المرأة لاشتراكهما في حُرمة الصهر .
والإضافة في قوله : { نسائهن } إلى ضمير { المؤمنات } : إن حملت على ظاهر الإضافة كانت دالة على أنهن النساء اللاتي لهن بهن مزيد اختصاص فقيل المراد نساء أُمَّتِهن ، أي المؤمنات ، مثل الإضافة في قوله تعالى :
{ واستشهدوا شهيدين من رجالكم } [ البقرة : 282 ] ، أي من رجال دينكم . ويجوز أن يكون المراد أو النساء . وإنما أضافهن إلى ضمير النسوة إتباعاً لبقية المعدود .
قال ابن العربي : إن في هذه الآية خمسة وعشرين ضميراً فجاء هذا للإتباع ا ه . أي فتكون الإضافة لغير داع معنوي بل لداع لفظي تقتضيه الفصاحة مثل الضميرين المضاف إليهما في قوله تعالى : { فألهمها فجورها وتقواها } [ الشمس : 8 ] أي ألهمها الفجور والتقوى . فإضافتهما إلى الضمير إتباع للضمائر التي من أول السورة : { والشمس وضحاها } [ الشمس : 1 ] وكذلك قوله فيها : { كذبت ثمود بطغواها } [ الشمس : 11 ] أي بالطغوى وهي الطغيان فذكر ضمير ثمود مستغنى عنه لكنه جيء به لمحسن المزاوجة .
ومن هذين الاحتمالين اختلف الفقهاء في جواز نظر النساء المشركات والكتابيات إلى ما يجوز للمرأة المسلمة إظهاره للأجنبي من جسدها . وكلام المفسرين من المالكية وكلام فقهائهم في هذا غير مضبوط . والذي يستخلص من كلامهم قول خليل في «التوضيح» عند قول ابن الحاجب : وعورة الحرة ما عدا الوجه والكفين . ومقتضى كلام سيدي أبي عبد الله بن الحاج : أما الكافرة فكالأجنبية مع الرجال اتفاقاً .
وفي مذهب الشافعي قولان : أحدهما : أن غير المسلمة لا ترى من المرأة المسلمة إلا الوجه والكفين ورجحه البغوي وصاحب «المنهاج» البيضاوي واختاره الفخر في «التفسير» . ونقل مثل هذا عن عمر بن الخطاب وابن عباس ، وعلله ابن عباس بأن غير المسلمة لا تتورع عن أن تصف لزوجها المسلمة . وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بن الجراح : «أنه بلغني أن نساء أهل الذمة يدخلن الحمامات مع نساء المسلمين فامنعْ من ذلك وحُلْ دونه فإنه لا يجوز أن ترى الذمية عِرْيَة المسلمة» .
القول الثاني : أن المرأة غير المسلمة كالمسلمة ورجحه الغزالي .
ومذهب أبي حنيفة كذلك فيه قولان : أصحهما أن المرأة غير المسلمة كالرجل الأجنبي فلا ترى من المرأة المسلمة إلا الوجه والكفين والقدمين ، وقيل : هي كالمرأة المسلمة .
وأما ما ملكت أيمانهن فهو رخصة لأن في ستر المرأة زينتها عنهم مشقة عليها . لكثرة ترددهم عليها . ولأن كونه مملوكاً لها وازع له ولها عن حدوث ما يحرم بينهما ، والإسلام وازع له من أن يصف المرأة للرجال .
وأما التابعون غير أولي الإربة من الرجال فهم صنف من الرجال الأحرار تشترك أفراده في الوصفين وهما التبعية وعدم الإربة .
فأما التبعية فهي كونهم من أتباع بيت المرأة وليسوا ملك يمينها ولكنهم يترددون على بيتها لأخذ الصدقة أو للخدمة .
والإربة : الحاجة . والمراد بها الحاجة إلى قربان النساء . وانتفاء هذه الحاجة تظهر في المجبوب والعنين والشيخ الهرم فرخص الله في إبداء الزينة لنظر هؤلاء لرفع المشقة عن النساء مع السلامة الغالبة من تطرق الشهوة وآثارها من الجانبين .
واختلف في الخصي غير التابع هل يلحق بهؤلاء على قولين مرويين عن السلف .
وقد روي القولان عن مالك . وذكر ابن الفرس : أن الصحيح جواز دخوله على المرأة إذا اجتمع فيه الشرطان التبعيّة وعدم الإربة . وروي ذلك عن معاوية بن أبي سفيان .
وأما قضية ( هيتٍ ) المخنث أو المخصي ونهى النبي صلى الله عليه وسلم نساءه أن يدخلن عليهن فتلك قضية عين تعلقت بحالة خاصة فيه . وهي وصفه النساء للرجال فتقصى على أمثاله . ألا ترى أنه لم ينه عن دخوله على النساء قبل أن يسمع منه ما سمع .
وقرأ الجمهور : { غير أولي الإربة } بخفض { غير } . وقرأه ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر بنصب { غير } على الحال .
والطفل مفرد مراد به الجنس فلذلك أجري عليه الجمع في قوله : { الذين لم يظهروا } وذلك مثل قوله : { ثم نخرجكم طفلاً } [ الحجّ : 5 ] أي أطفالاً .
ومعنى : { لم يظهروا على عورات النساء } لم يطلعوا عليها . وهذا كناية عن خلو بالهم من شهوة النساء وذلك ما قبل سن المراهقة .
ولم يذكر في عداد المستثنيات العم والخال فاختلف العلماء في مساواتهما في ذلك : فقال الحسن والجمهور : هما مساويان لمن ذكر من المحارم وهو ظاهر مذهب مالك إذ لم يذكر المفسرون من المالكية مثل ابن الفرس وابن جزي عنه المنع . وقال الشعبي بالمنع وعلل التفرقة بأن العم والخال قد يصفان المرأة لأبنائهما وأبناؤهما غير محارم . وهذا تعليل واهٍ لأن وازع الإسلام يمنع من وصف المرأة .
والظاهر أن سكوت الآية عن العم والخال ليس لمخالفة حكمهما حكم بقية المحارم ولكنه اقتصار على الذين تكثر مزاولتهم بيت المرأة ، فالتعداد جرى على الغالب . ويلحق بهؤلاء القرابة من كان في مراتبهم من الرضاعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " . وجزم بذلك الحسن ، ولم أر فيه قولاً للمالكية . وظاهر الحديث أن فيهم من الرخصة ما في محارم النسب والصهر .
{ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ } .
الضرب بالأرجل إيقاع المشي بشدة كقوله : يضرب في الأرض .
روى الطبري عن حضرمي : أن امرأة اتخذت بُرتين ( تثنية بُرَة بضم الباء وتخفيف الراء المفتوحة ضرب من الخَلْخَال ) من فضة واتخذت جَزْعاً في رجليها فمرت بقوم فضربت برجلها فوقع الخلخال على الجزع فصوت فنزلت هذه الآية .
والتحقيق أن من النساء من كن إذا لبسن الخلخال ضربن بأرجلهن في المشي بشدة لتسمع قعقعة الخلاخل غنجاً وتباهياً بالحسن فنهين عن ذلك مع النهي عن إبداء الزينة .
قال الزجاج : سماع هذه الزينة أشد تحريكاً للشهوة من النظر للزينة فأما صوتُ الخلخال المعتادُ فلا ضير فيه .
وفي أحاديث ابن وهب من «جامع العتبية» : سئل مالك عن الذي يكون في أرجل النساء من الخلاخل قال : «ما هذا الذي جاء فيه الحديث وتركُه أحب إليّ من غير تحريم» .
قال ابن رشد في «شرحه« : أراد أن الذي يحرمُ إنما هو أن يقصدْنَ في مشيهن إلى إسماع قعقعة الخلاخل إظهاراً بهن من زينتهن .
وهذا يقتضي النهي عن كل ما من شأنه أن يُذَكِّرَ الرجل بلهو النساء ويثير منه إليهن من كل ما يُرى أو يسمع من زينة أو حركة كالتثني والغناء وكلم الغَزَل . ومن ذلك رقص النساء في مجالس الرجال ومن ذلك التلطخ بالطيب الذي يغلب عبيقه . وقد أومأ إلى علة ذلك قوله تعالى : { ليعلم ما يخفين من زينتهن } ولعن النبي صلى الله عليه وسلم المستوشمات والمتفلجات للحسن .
قال مكي بن أبي طالب ليس في كتاب الله آية أكثر ضمائر من هذه الآية جمعت خمسة وعشرين ضميراً للمؤمنات من مخفوض ومرفوع وسماها أبو بكر ابن العربي : آية الضمائر .
{ وتوبوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَ المؤمنون لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
أعقبت الأوامر والنواهي الموجهة إلى المؤمنين والمؤمنات بأمر جميعهم بالتوبة إلى الله إيماء إلى أن فيما أمروا به ونهوا عنه دفاعاً لداع تدعو إليه الجبلة البشرية من الاستحسان والشهوة فيصدر ذلك عن الإنسان عن غفلة ثم يتغلغل هو فيه فأمروا بالتوبة ليحاسبوا أنفسهم على ما يفلت منهم من ذلك اللمم المؤدي إلى ما هو أعظم .
والجملة معطوفة على جملة : { قل للمؤمنين } [ النور : 30 ] . ووقع التفات من خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خطاب الأمة لأن هذا تذكير بواجب التوبة المقررة من قبل وليس استئناف تشريع .
ونبه بقوله : { جميعاً } على أن المخاطبين هم المؤمنون والمؤمنات وإن كان الخطاب ورد بضمير التذكير على التغليب ، وأن يؤملوا الفلاح إن هم تابوا وأنابوا .
وتقدم الكلام على التوبة في سورة النساء ( 17 ) عند قوله تعالى : { إنما التوبة على الله . } وكتب في المصحف { أيه } بهاء في آخره اعتباراً بسقوط الألف في حال الوصل مع كلمة { المؤمنون } . فقرأها الجمهور بفتح الهاء بدون ألف في الوصل . وقرأها أبو عامر بضم الهاء إتباعاً لحركة ( أيّ ) . ووقف عليها أبو عمرو والكسائي بألف في آخرها . ووقف الباقون عليها بسكون الهاء على اعتبار ما رسمت به .
فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) {الواقعة}
وجملة { لا يمسه إلا المطهرون } صفة ثانية ل { كتاب } .
و { المطهّرون } : الملائكة ، والمراد الطهارة النفسانية وهي الزكاء . وهذا قول جمهور المفسرين وفي «الموطأ» قال مالك : أحسن ما سمعت في هذه الآية { لا يمسه إلا المطهرون } أنها بمنزلة هذه الآية التي في عبس وتولى قول الله تبارك وتعالى : { كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة . يريد أن{ المطهرون } هم السفرة الكرام البررة وليسوا الناس الذين يتطهرون .
ومعنى المسّ : الأخذ وفي الحديث : «مَس من طيبة» ، أي أخذ . ويطلق المسّ على المخالطة والمطالعة قال يزيد بن الحكم الكلابي :
مسِسْنا من الآباء شيئاً فكلُّنا ... إلى حسَب في قومه غير واضع
قال المرزوقي في شرح هذا البيت من «الحماسة» : «مسسنا» يجوز أن يكون بمعنى أصبنا واختبرنا لأن المس باليد يقصد به الاختبار . ويجوز أن يكون بمعنى طلبنا . فالمعنى : أن الكتاب لا يباشر نقل ما يحتوي عليه لتبليغه إلا الملائكة .
والمقصود من هذا أن القرآن ليس كما يزعم المشركون قول كاهن فإنهم يزعمون أن الكاهن يتلقى من الجن والشياطين ما يسترِقونه من أخبار السماء بزعمهم ، ولا هو قول شاعر إذ كانوا يزعمون أن لكل شاعر شيطاناً يملي عليه الشعر ، ولا هو أساطير الأولين ، لأنهم يعنون بها الحكايات المكذوبة التي يَتلهى بها أهلُ الأسمار ، فقال الله : إن هذا القرآن مطابق لما عند الله الذي لا يشاهده إلا الملائكة المطهرون .
وجملة { تنزيل من رب العالمين } مبينة لجملة { في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون } فهي تابعة لصفة القرآن ، أي فبلوغه إليكم كان بتنزيل من الله ، أي نزل به الملائكة .
وفي معنى نظم هذه الآية قوله تعالى : { وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون تنزيل من رب العالمين } [ الحاقة : 41 43 ] .
وإذ قد ثبتت هذه المرتبة الشريفة للقرآن كان حقيقاً بأن تعظم تلاوته وكتابته ، ولذلك كان من المأمور به أن لا يمَس مكتوبَ القرآن إلا المتطهِّرُ تشبهاً بحال الملائكة في تناول القرآن بحيث يكون ممسك القرآن على حالة تطهر ديني وهو المعنى الذي تومىء إليه مشروعية الطهارة لمن يريد الصلاة نظير ما في الحديث " المصلي يناجي ربه " . وقد دلت آثار على هذا أوضحها ما رواه مالك في «الموطأ» مرسلاً «أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أقيال ذي رعين وقعافر وهمذان وبعثها به مع عمرو بن حزم " أن لا يمس القرآن إلا طاهر " . وروى الطبراني عن عبد الله بن عُمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمس القرآن إلا طاهر» ، قال المناوي : وسنده صحيح وجعله السيوطي في مرتبة الحسن .
وفي كتب السيرة أن عمر بن الخطاب قبل أن يُسلم دخل على اخته وهي امرأة سعيد بن زيد فوجدها تقرأ القرآن من صحيفة مكتوب فيها سورة طه فدعا بالصحيفة ليقرأها فقالت له : لا يمسه إلا المطهّرون فقام فاغتسل وقرأ السورة فأسلم ، فهذه الآية ليست دليلاً لحكم مسّ القرآن بأيدي الناس ولكن ذكر الله إياها لا يخلو من إرادة أن يقاس الناسُ على الملائكة في أنهم لا يمسّون القرآن إلا إذا كانوا طاهرين كالملائكة ، أي بقدر الإِمكان من طهارة الآدميين .
فثبت بهذا أن الأمر بالتطهر لمن يمسك مكتوباً من القرآن قد تقرر بين المسلمين من صدر الإِسلام في مكة .
وإنما اختلف الفقهاء في مقتضى هذا الأمر من وجوب أو ندب ، فالجمهور رأوا وجوب أن يكون ممسك مكتوب القرآن على وضوء وهو قول علي وابن مسعود وسعد وسعيد وعطاء والزهري ومالك والشافعي ، وهو رواية عن أبي حنيفة ، وقال فريق : إن هذا أمر ندب وهو قول ابن عباس والشعبي ، وروي عن أبي حنيفة وهو قول أحمد وداود الظاهري .
قال مالك في «الموطأ» " ولا يحمل أحد المصحف لا بعلاقته ولا على وسادة إلا وهو طاهر إكراماً للقرآن وتعظيماً له " . وفي سماع ابن القاسم من كتاب الوضوء من «العتبية» في المسألة السادسة «سئل مالك عن اللوح فيه القرآن أيمس على غير وضوء؟ فقال : أما للصبيان الذين يتعلمون فلا رأى به بأساً ، فقيل له : فالرجل يتعلم فيه؟ قال : أرجو أن يكون خفيفاً ، فقيل لابن القاسم : فالمُعلِّمُ يشكِّل ألواح الصبيان وهو على غير وضوء ، قال : أرى ذلك خفيفاً» .
قال ابن رشد في «البيان والتحصيل» : «لما يلحقه في ذلك من المشقة فيكون ذلك سبباً إلى المنع من تعلمه . وهذه هي العلة في تخفيف ذلك للصبيان . وأشار الباجي في «المنتقى» إلى أن إباحة مسّ القرآن للمتعلم والمعلم هي لأجل ضرورة التعلم .
وقد اعتبروا هذا حكماً لما كتب فيه القرآن بقصد كونه مصحفاً أو جزءاً من مصحف أو لَوحاً للقرآن ولم يعتبروه لما يكتب من آي القرآن على وجه الاقتباس أو التضمين أو الاحتجاج ومن ذلك ما يكتب على الدنانير والدراهم وفي الخواتيم .
والمراد بالطهارة عند القائلين بوجوبها الطهارة الصغرى ، أي الوضوء ، وقال ابن عباس والشعبي : يجوز مسّ القرآن بالطهارة الكبرى وإن لم تكن الصغرى .
ومما يلتحق بهذه المسألة مسألة قراءة غير المتطهّر القرآن وليست مما شملته الآية ظاهراً ولكن لمّا كان النهي عن أن يمسّ المصحف غير متطهّر لعله أن المس ملابسة لمكتوب القرآن فقد يكون النهي عن تلاوة ألفاظ القرآن حاصلاً بمفهوم الموافقة المساوي أو الأحرى ، إذ النطق ملابسة كملابسة إمساك المكتوب منه أو أشد وأحسب أن ذلك مثار اختلافهم في تلاوة القرآن لغير المتطهّر . وإجماع العلماء على أن غير المتوضىء يقرأ القرآن مع اختلافهم في مسّ المصحف لغير المتوضىء يشعر بأن مس المصحف في نظرهم أشدُّ ملابسة من النطق بآيات القرآن .
قال مالك وأبو حنيفة والشافعي : لا يجوز للجنب قراءة القرآن ويجوز لغير المتوضىء . وقلت : شاع بين المسلمين من عهد الصحابة العمل بأن لا يتلو القرآن من كان جنباً ولم يُوثر عنهم إفتاء بذلك . وقال أحمد وداود : تجوز قراءة القرآن للجنب . ورخص مالك في قراءة اليسير منه كالآية والآيتين ، ولم يشترط أحد من أهل العلم الوضوء على قارىء القرآن .
واختلف في قراءته للحائض والنفساء . وعن مالك في ذلك روايتان ، وأحسب أن رواية الجواز مراعى فيها أن انتقاض طهارتهما تطول مدته فكان ذلك سبباً في الترخيص .
وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (يوسف 67 )
والحكم : هنا بمعنى التصرف والتقدير ، ومعنى الحصر أنه لا يتم إلا ما أراده الله ، كما قال تعالى : { إن الله بالغٌ أمره } [ سورة الطلاق : 3 ] . وليس للعبد أن ينازع مراد الله في نفس الأمر ولكن واجبه أن يتطلب الأمور من أسبابها لأن الله أمر بذلك ، وقد جمع هذين المعنيين قوله : وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغني عنكم من الله من شيء } .
وجملة { عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون } في موضع البيان لِجملة { وما أغني عنكم من الله من شيء } ليبين لهم أن وصيته بأخذ الأسباب مع التنبيه على الاعتماد على الله هو معنى التوكّل الذي يَضل في فهمه كثير من الناس اقتصاراً وإنكاراً ، ولذلك أتى بجملة { وعليه فليتوكل المتوكلون } أمراً لهم ولغيرهم على معنى أنه واجب الحاضرين والغائبين ، وأن مقامه لا يختص بالصدّيقين بل هو واجب كل مؤمن كامل الإيمان لا يخلط إيمانه بأخطاء الجاهليات .
فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (القصص 13)
...
وموضع العبرة من هذه القصة أنها تتضمن أموراً ذات شأن فيها ذكرى للمؤمنين وموعظة للمشركين .
فأول ذلك وأعظمه : إظهار أن ما علمه الله وقدَّره هو كائن لا محالة كما دل عليه قوله { ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض } إلى قوله { يحذرون } [ القصص : 5 - 6 ] وأن الحذر لا ينجي من القدر .
وثانيه : إظهار أن العلو الحق لله تعالى وللمؤمنين وأن علو فرعون لم يغننِ عنه شيئاً في دفع عواقب الجبروت والفساد ليكون ذلك عبرة لجبابرة المشركين من أهل مكة .
وثالثه : أن تمهيد القصة بعلو فرعون وفساد أعماله مشير إلى أن ذلك هو سبب الانتقام منه والأخذ بناصر المستضعفين ليحذر الجبابرة سوء عاقبة ظلمهم وليرجو الصابرون على الظلم أن تكون العاقبة لهم .
ورابعه : الإشارة إلى حكمة { وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم } [ البقرة : 216 ] في جانب بني إسرائيل { وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم } [ البقرة : 216 ] في جانب فرعون إذ كانوا فرحين باستخدام بني إسرائيل وتدبير قطع نسلهم .
وخامسه : أن إصابة قوم فرعون بغتة من قِبَل من أملوا منه النفع أشد عبرة للمعتبر وأوقع حسرة على المستبصر ، وأدل على أن انتقام الله يكون أعظم من انتقام العدو كما قال { فالتقطه ءال فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً } [ القصص : 8 ] مع قوله { عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً } [ القصص : 9 ] .
وسادسه : أنه لا يجوز بحكم التعقل أن تستأصل أمة كاملة لتوقع مفسد فيها لعدم التوازن بين المفسدتين ، ولأن الإحاطة بأفراد أمة كاملة متعذرة فلا يكون المتوقع فساده إلا في الجانب المغفول عنه من الأفراد فتحصل مفسدتان هما أخذ البريء وانفلات المجرم .
وسابعه : تعليم أن الله بالغٌ أمره بتهيئة الأسباب المفضية إليه ولو شاء الله لأهلك فرعون ومن معه بحادث سماوي ولمَا قدّر لإهلاكهم هذه الصورة المرتبة ولأنجى موسى وبني إسرائيل إنجاء أسرع ولكنه أراد أن يحصل ذلك بمشاهدة تنقلات الأحوال ابتداء من إلقاء موسى في اليمّ إلى أن رَدّه إلى أمه فتكون في ذلك عبرة للمشركين الذين { قالوا اللهم إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم } [ الأنفال : 32 ] وليتوسموا من بوارق ظهور النبي محمد صلى الله عليه وسلم وانتقال أحوال دعوته في مدارج القوة أن ما وعدهم به واقع بأخَرَة .
وثامنه : العبرة بأن وجود الصالحين من بين المفسدين يخفف من لأواء فساد المفسدين فإن وجود امرأة فرعون كان سبباً في صد فرعون عن قتل الطفل مع أنه تحقق أنه إسرائيلي فقالت امرأته { لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً } [ القصص : 9 ] كما قدمنا تفسيره .
وتاسعه : ما في قوله { ولتعلم أن وعد الله حق } من الإيماء إلى تذكير المؤمنين بأن نصرهم حاصل بعد حين ، ووعيد المشركين بأن وعيدهم لا مفرّ لهم منه .
وعاشره : ما في قوله { ولكن أكثرهم لا يعلمون } من الإشارة إلى أن المرء يُؤتى من جهله النظر في أدلة العقل .
ولما في هذه القصة من العبر اكتفى مصعب بن الزبير بطالعها عن الخطبة التي حقه أن يخطب بها في الناس حين حلوله بالعراق من قِبَل أخيه عبد الله بن الزبير مكتفياً بالإشارة مع التلاوة فقال { طسم تلك ءايات الكتاب المبين نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق لقوم يؤمنون إن فرعون علا في الأرض وأشار إلى جهة الشام يريد عبد الملك بن مروان وجعل أهلها شِيَعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض وأشار بيده نحو الحجاز ، يعني أخاه عبد الله بن الزبير وأنصاره ونجعلهم أيمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما { وأشار إلى العراق يعني الحجاج منهم ما كانوا يحذرون } [ القصص : 1 - 6 ] .
آل عمران
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)
...
ويتّجه أن يسأل سائل عن وجه إعادة النّهي عن الربا في هذه السورة بعد ما سبق من آيات سورة البقرة بما هو أوفى ممَّا في هذه السورة ، فالجواب : أنّ الظاهر أنّ هذه الآية نزلت قبل نزول آية سورة البقرة فكانت هذه تمهيداً لتلك ، ولم يكن النّهي فيها بالغاً ما في سورة البقرة وقد روي أن آية البقرة نزلت بعد أن حَرّم الله الربا وأن ثقيفاً قالوا : كيف ننهى عن الربا ، وهومثل البيع ، ويكون وصف الربا ب { أضعافاً مضاعفة } نهياً عن الربا الفاحش وسَكت عمّا دون ذلك ممّا لا يبلغ مبلغ الأضعاف ، ثمّ نزلت الآية الَّتي في سورة البقرة ويحتمل أن يكون بعض المسلمين داين بعضاً بالمراباة عقب غزوة أحُد فنزل تحريم الرّبا في مدّة نزول قصّة تلك الغزوة . وتقدّم الكلام على معنى أكل الرّبا ، وعلى معنى الربا ، ووجه تحريمه ، في سورة البقرة
...
وقوله : { مضاعفة } صفة للأضعاف أي هي أضعاف يدخلها التَّضعيف ، وذلك أنّهم كانوا إذا دَاينوا أحداً إلى أجل داينوه بزيادة ، ومتى أعسر عند الأجل أو رام التأخير زاد مثل تلك الزيادة ، فيصير الضِعف ضعفاً ، ويزيد ، وهكذا ، فيصدق بصورة أن يجعلوا الدّين مضاعفاً بمثله إلى الأجل ، وإذا ازداد أجلاً ثانياً زاد مثل جميع ذلك ، فالأضعاف من أوّل التداين للأجل الأوّل ، ومضاعفتها في الآجال الموالية ، ويصدُق بأن يداينوا بمراباة دون مقدار الدّين ثُمّ تزيد بزيادة الآجال ، حتَّى يصير الدّين أضعافاً ، وتصير الأضعاف أضعافاً
...
وحكمة تحريم الرّبا هي قصد الشَّريعة حملَ الأمَّة على مواساة غنيِّها محتاجَها احْتياجاً عارضاً موقّتاً بالقرض ، فهو مرتبة دون الصدقة ، وهو ضرب من المواساة إلا أن المواساة منها فرض كالزكاة ، ومنها ندب كالصّدقة والسلففِ ، فإن انتدب لها المكلّف حرّم عليه طلب عوض عنها ، وكذلك المعروف كُلّه ، وذلك أن العادة الماضية في الأمم ، وخاصّة العرب ، أنّ المرء لا يتداين إلاّ لضرورة حياته ، فلذلك كان حقّ الأمَّة مواساته
...
ويمكن أن يكون مقصد الشريعة من تحريم الرّبا البعدَ بالمسلمين عن الكسل في استثمار المال ، وإلجاؤهم إلى التشارك والتعاون في شؤون الدنيا ، فيكون تحريم الرّبا ، ولو كان قليلاً ، مع تجويز الربح من التِّجارة والشركات ، ولو كان كثيراً تحقيقاً لهذا المقصد .
ولقد قضى المسلمون قروناً طويلة لم يروا أنفسهم فيها محتاجين إلى التعامل بالرّبا ، ولم تكن ثروتهم أيّامئذ قاصرة عن ثروة بقية الأمم في العالم ، أزمان كانت سيادة العالم بيدهم ، أو أزمان كانوا مستقلّين بإدارة شؤونهم ، فلمَّا صارت سيادة العالم بيد أمم غير إسلامية ، وارتبط المسلمون بغيرهم في التِّجارة والمعاملة ، وانتظمت سوق الثَّروة العالمية على قواعد القوانين الَّتي لا تتحاشى المراباة في المعاملات ، ولا تعْرف أساليب مواساة المسلمين ، دهش المسلمون ، وهم اليوم يتساءلون ، وتحريم الربا في الآية صريح ، وليس لما حرّمه الله مبيح . ولا مخلص من هذا المضيق إلا أن تجعل الدول الإسلامية قوانين مالية تُبنى على أصول الشريعة في المصارف ، والبيوع ، وعقود المعاملات المركبة من رؤوس الأموال وعمل العمّال . وحوالات الديون ومقاصّتها وبيعها . وهذا يقضي بإعمال أنظار علماء الشريعة والتدارس بينهم في مجمع يحوي طائفة من كلّ فرقة كما أمر الله تعالى .
البقرة
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)
القرآنُ أهمّ أصول حفظِ مال الأمَّة في سِلك هاته الآيات . فبعد أن ابتدأ بأعظم تلك الأصول وهو تأسيس مال للأمة به قوام أمرها ، يؤخذ من أهل الأموال أخذا عدْلاً مما كان فضلاً عن الغنى فقرضه على الناس ، يؤخذ من أغنيائهم فيردّ على فقرائهم ، سواء في ذلك ما كان مفروضاً وهو الزكاة أو تطوّعاً وهو الصدقة ، فأطنب في الحثّ عليه ، والترغيب في ثوابه ، والتحذير من إمساكه ، ما كان فيه موعظة لمن اتّعظ ، عَطف الكلام إلى إبطال وسيلة كانت من أسباب ابتزاز الأغنياء أموال المحتاجين إليهم ، وهي المعاملة بالربا الذي لقّبه النبي صلى الله عليه وسلم ربَا الجاهليةِ ، وهو أن يعطي المدين مالاً لدائنه زائداً على قدر الدين لأجل الانتظار ، فإذا حلّ الأجل ولم يدفع زَاد في الدين ، يقولون : إمّا أن تَقْضيَ وإمّا أن تُربِي . وقد كان ذلك شائعاً في الجاهلية كذا قال الفقهاء . والظاهر أنّهم كانوا يأخذون الربا على المدين من وقت إسلافه وكلّما طلبَ النظرة أعطى ربا آخر ، وربّما تسامح بعضهم في ذلك . وكان العباس بنُ عبد المطلب مشتهراً بالمراباة في الجاهلية ، وجاء في خطبة حجّة الوداع " ألا وإنّ ربا الجاهلية موضوع وإنّ أول ربا أبْدَأ به ربا عمّي عباس بن عبد المطلب " ....
ثم عطف إلى خطاب المسلمين فقال :
{ يأيها الذين آمنوا اتقوا الله } [ البقرة : 278 ] الآيات ، ولعلّ بعض المسلمين لم ينكفّ عن تعاطي الربا أو لعلّ بعضهم فتن بقول الكفار : إنّما البيع مثل الربا . فكانت آية سورة آل عمران مبدأ التحريم ، وكانت هذه الآية إغلاق باب المعذرة في أكل الربا وبياناً لكيفية تدارك ما سلف منه .
والربا يقع على وجهين : أحدهما السلف بزيادة على ما يعطيه المسلف ، والثاني السلف بدون زيادة إلى أجل ، يعني فإذا لم يوف المستسلف أداء الدين عند الأجل كان عليه أن يزيد فيه زيادة يتّفقان عليها عند حلول كل أجل .
...
واعلم أنّ مبنى شبهة القائلين { إنما البيع مثل الربوا } أنّ التجارة فيها زيادة على ثمن المبيعات لقصد انتفاع التاجر في مقابلة جلب السلع وإرصادها للطالبين في البيع الناض ، ثم لأجل انتظار الثمن في البيع المؤجّل ، فكذلك إذا أسلف عشرة دراهم مثلاً على أنّه يرجعها له أحد عشر درهماً ، فهو قد أعطاه هذا الدرهم الزائد لأجل إعداد ماله لمن يستسلفه؛ لأنّ المقرض تصدّى لإقراضه وأعدّ ماله لأجله ، ثم لأجل انتظار ذلك بعد محل أجله .
...
فالوجه عندي في التفرقة بين البيع والربا أنّ مرجعها إلى التعليل بالمظنّة مراعاة للفرق بين حالي المقترض والمشتري ، فقد كان الاقتراض لدفع حاجة المقترض للإنفاق على نفسه وأهله لأنّهم كانوا يعدّون التداين همّاً وكرباً ، وقد استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم وحال التاجر حال التفضّل . وكذلك اختلاف حالي المُسْلِف والبائع ، فحال باذل ماله للمحتاجين لينتفع بما يدفعونه من الربا فيزيدهم ضيقاً؛ لأنّ المُتسلّف مظنّة الحاجة ، ألا تراه ليس بيده مال ، وحال بائع السلعة تجارةً حالُ من تجشّم مشقّة لجلب ما يحتاجه المتفضّلون وإعداده لهم عند دعاء حاجتهم إليه مع بذلهم له ما بيدهم من المال .
فالتجارة معاملة بين غنيّين : ألا ترى أنّ كليهما باذل لما لا يحتاج إليه وآخذٌ ما يحتاج إليه ، فالمتسلّف مظنّة الفقر ، والمشتري مظنّة الغِنى ، فلذلك حرم الربا لأنّه استغلال لحاجة الفقير وأحلّ البيع لأنّه إعانة لطالب الحاجات . فتبيّن أنّ الإقراض من نوع المواساةِ والمعروف ، وأنّها مؤكّدة التعيُّن على المواسي وجوباً أو ندْباً ، وأيَّا ما كان فلا يحل للمقرض أن يأخذ أجراً على عمل المعروف . فأما الذي يستقرض مالاً ليتجَّر به أو ليوسع تجارته فليس مظنّة الحاجة ، فلم يكن من أهل استحقاق مواساة المسلمين ، فلذلك لا يجب على الغني إقراضه بحال فإذا قرضه فقد تطوّع بمعروف . وكفى بهذا تفرقة بين الحالين .
....
ثم اختلف علماء الإسلام في أنّ لفظ الربا في الآية باق على معناه المعروف في اللغة ، أو هو منقول إلى معنى جديد في اصطلاح الشرع .
فذَهَب ابن عباس وابن عمر ومعاوية إلى أنّه باق على معناه المعروف وهو ربا الجاهلية ، أعني الزيادة لأجل التأخير ، وتمسك ابن عباس بحديث أسامة " إنّما الربا في النسيئة " ولم يأخذ بما ورد في إثبات ربا الفضل بدون نسيئة ، قال الفخر : «ولعلّه لا يرى تخصيص القرآن بخبر الآحاد» ، يعني أنّه حمل { أحل الله البيع } على عمومه .
وأما جمهور العلماء فذهبوا إلى أنّ الربا منقول في عرف الشرع إلى معنى جديد كما دلّت عليه أحاديث كثيرة ، وإلى هذا نحا عمر بن الخطاب وعائشة وأبو سعيد الخدري وعبادة بن الصامت بل رأى عمر أنّ لفظ الربا نقل إلى معنى جديد ولم يبيَّن جميعُ المراد منه فكأنّه عنده ممّا يشبه المجمل ، فقد حَكى عنه ابن رشد في المقدمات أنّه قال : «كان من أخر ما أنزل الله على رسوله آية الربا فتوفي رسول الله ولم يفسرها ، وإنّكم تزعمون أنّا نعلم أبواب الربا ، ولأنْ أكون أعلَمُها أحبُ إليّ من أن يكون لي مثل مصر وكورها» قال ابن رشد : ولم يرُد عمر بذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفسر آية الربا ، وإنّما أراد والله أعلم أنّه لم يعمّ وجوه الربا بالنص عليها . وقال ابن العربي : بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم معنى الربا في ستة وخمسين حديثاً .
والوجهُ عندي أن ليس مراد عمر أنّ لفظ الربا مجمل لأنّه قابله بالبيان وبالتفسير ، بل أراد أنّ تحقيق حكمه في صور البيوع الكثيرة خفي لم يَعمَّه النبي صلى الله عليه وسلم بالتنصيص؛ لأنّ المتقدمين لا يتوخّون في عباراتهم ما يساوي المعاني الاصطلاحية ، فهؤلاء الحنفية سمّوا المخصّصات بيانَ تغيير . وذكر ابن العربي في العواصم أنّ أهل الحديث يتوسّعون في معنى البيان . وفي تفسير الفخر عن الشافعي أنّ قوله تعالى : { وأحل الله البيع وحرم الربوا } من المجملات التي لا يجوز التمسك بها ، أي بعمومَيْها : عموم البيععِ وعموممِ الربا؛ لأنّه إن كان المراد جنس البيع وجنس الزيادة لزم بيان أيّ بيع وأيّ زيادة ، وإن كان المراد كل بيع وكل زيادة فما من بيع إلاّ وفيه زيادة ، فأول الآية أباح جميع البيوع وآخرها حرم الجميع ، فوجب الرجوع إلى بيان الرسول عليه السلام . والذي حمل الجمهورَ على اعتبار لفظ الربا مستعملاً في معنى جديد أحاديثُ وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل دلت على تفسير الربا بما هو أعم من ربا الجاهلية المعروف عندهم قبل الإسلام ، وأصولها ستة أحاديث :
الحديث الأول حديث أبي سعيد الخِدْري : «الذهب بالذهب والفضّة بالفضّة والبرّ بالبرّ والشعير بالشعير والتَّمر بالتمر والمِلح بالمِلح مِثْلاً بِمثْللٍ يداً بيد ، فمن زاد وازداد فقد أربى ، الآخِذ والمعطي في ذلك سواء» .
الثاني حديث عبادة بن الصامت : «الذهبُ بالذهب تِبْرُها وعَيْنُها والفضّة بالفضّة تِبْرها وعَينها والبُرّ بالبُرّ مُدّاً بمدّ وَالشعير بالشعير مُداً بمد والتمر بالتمر مُداً بمد والمِلْح بالملح مداً بمد ، فمن زاد واستزاد فقد أربى ، ولا بأس ببيع الذهب بالفضّة والفضّة بالذهب أكثرهما يداً بيد ، وأما النسيئة فلا» رواه أبو داود ، فسمّاه في هذين الحديثين ربا .
الثالث حديث أبي سعيد : أنّ بلالاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر بَرْنِيَ ، فقال له : من أين هذا فقال بلال : تَمر كان عندنا رديء فبعتُ منه صاعين بصاع لطَعم النبي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أوّهْ عين الربا ، لا تفعل ، ولكن إذا أردت أن تشتري التمر فبعه ثم اشتر من هذا» فسمّى التفاضل ربا .
الرابع حديث «الموطأ» و«البخاري» عن ابن سعيد وأبي هريرة أنّ سواد بن غَزِيَّةِ جاء في خيبر بتمر جَنِيب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " أكُلُّ تمرِ خيبرَ هكذا " فقال : «يا رسول الله إنّا لنأخُذُ الصاع من هذا بالصاعين والثلاثة» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تَفْعَلْ ، بع الجمعْ بالدراهم ، ثم ابتع بالدراهم جَنِيبا " .
الخامس حديث عائشة في «صحيح البخاري» : قالت " لما نزلت الآيات من آخر البقرة في الربا قرأها النبي ثم حَرّم التجارة في الخمر " فظاهره أنّ تحريم التجارة في الخمر كان عملاً بآية النهي عن الربا وليس في تجارة الخمر معنى من معنى الربا المعروف عندهم وإنّما هو بيع فاسد .
السادس حديث الدارقطني ورواه ابن وهب عن مالك أنّ العالية بنت أيْنَع وفدت إلى المدينة من الكوفة ، فلقيت عائشة فأخبرتْها أنّها باعت من زيد بن أرقم في الكوفة جارية بثمانمائة درهم إلى العطاء ، ثم إنّ زيداً باع الجارية فاشترتها العالية منه بستمائة نقداً ، فقالت لها عائشة : «بئسما شَرَيْتتِ وما اشتريتتِ ، أبْلِغِي زيداً أنّه قد أبطل جِهاده مع رسول الله إلاّ أن يتوب» ، قالت : فقلت لها : «أرأيتتِ إن لم آخذ إلاّ رأس مالي» قالت : «فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف» فجعلته عائشة من الربا ولذلك تلت الآية .
فلأجل هذه الأحاديث الستة أثبت الفقهاء ثلاثة أنواع للربا في اصطلاح الشرع :
الأول ربا الجاهلية وهو زيادة على الدين لأجل التأخير .
الثاني ربا الفضل وهو زيادة في أحد العوضين في بيع الصنف بصنفه من الأصناف المذكورة في حديث أبي سعيد وعُبادة بن الصامت .
الثالث ربا النسيئة وهو بيع شيء من تلك الأصناف بمثله مؤخّراً . وزاد المالكية نوعاً رابعاً : وهو ما يؤول إلى واحد من الأصناف بتهمة التحيّل على الربا ، وترجمُه في المدوّنة ببيوع الآجال ، ودليل مالك فيه حديث العالية . ومن العلماء من زعم أنّ لفظ الربا يشمل كل بيع فاسد أخذا من حديث في تحريم تجارة الخمر ، وإليه مال ابن العربي .
وعندي أنّ أظهر المذاهب في هذا مذهب ابن عباس ، وأنّ أحاديث ربا الفضل تحمل على حديث أسامة " إنّما الربا في النسيئة " ليجمع بين الحديثين ، وتسمية التفاضل بالربا في حديثي أبي سعيد وعُبادة بن الصامت دليل على ما قلناه ، وأنّ ما راعاه مالك من إبطال ما يفضي إلى تعامل الربا إن صدر من مواقع التهمة رعي حسن ، وما عداه إغراق في الاحتياط ، وقد يؤخذ من بعض أقوال مالك في «الموطأ» وغيره أنّ انتفاء التهمة لا يبطل العقد .
ولا متمسّك في نحو حديث عائشة في زيد بن أرقم لأنّ المسلمين في أمرهم الأول كانوا قريبي عهد بربا الجاهلية ، فكان حالهم مقتضياً لسدّ الذرائع .
وفي «تفسير القرطبي» : كان معاوية بن أبي سفيان يذهب إلى أنّ النهي عن بيع الذهب بالذهب والفضّة بالفضّة متفاضلاً إنّما ورد في الدينار المضروب والدرهم المضروب لا في التبر ولا في المصوغ ، فروى مسلم عن عبادة بن الصامت قال : غزونا وعَلى الناس معاوية فغنمنا غنائم كثيرة ، فكان فيما غنمنا آنيَة من ذهب ، فأمر معاوية رجالاً ببيعها في أعطياتتِ الناس ، فتنازع الناس في ذلك ، فبلغ ذلك عُبادة بن الصامت فقام فقال : «سمعتُ رسول الله ينهَى عن بيع الذهب بالذهب والفضّة بالفضّة إلاّ سواء بسواء عيْناً بعين ، من زاد وازداد فقد أربَى» فبلغ ذلك معاويةَ فقام خطيباً فقال : «ألا ما بال أقوام يتحدّثون عن رسول الله أحاديث قد كنّا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه» فقال عبادة بن الصامت : «لنحدّثن بما سمعنا من رسول الله وإن كَرِه معاوية» .
والظاهر أنّ الآية لم يُقصد منها إلاّ ربا الجاهلية ، وأنّ ما عداه من المعاملات الباطلة التي فيها أكل مال بالباطل مُندرجة في أدلة أخرى .
....
لم تزل أمنية كل مصلح قيضه الله للبشر لأن يهدي الناس إلى تكوين ما يسمى في عُرْف الحكماء بالمدينة الفاضلة، وهم إن اختلفت عندهم الأسماء لاختلاف أساليب التعبير في اللغات لا نجد بينهم اختلافاً في أن مسمى الذي يدعون إليه هو مسمى ما عناه الحكماء المدينة الفاضلة: مجتمع من الناس هو على أكمل حال يكون عليها المجتمع البشري في الرأي والعمل؛ ذلك أن الإنسان مدنيُّ بالطبع كما هو مشهور على الألسنة، وقد علل كثير من الحكماء كون الإنسان مدنياً بالطبع.
وأنا أختصره وأزيد بياناً: فمعنى كونه مدنيَّاً بالطبع أنه بطبع خلقته مجعول لأن يكون مدنياً، لأنه خلق بحيث لا يستقل وحده بأمر نفسه، بل هو محتاج إلى مشاركة غيره من بني جنسه؛ لظهور كثرة حاجاته الناشئة عن ضعفه الجبلي وتفكيره؛ فالضعف الجبلي جعله محتاجاً إلى مكملات يصير بها قويَّاً على مصادمة الكوارث والمهالك، والتفكير جعله متطلعاً إلى أن يعيش كما يحب لا كما يلقى، وذلك بالمُقام في حيث يريد دون انزواء أمام الحوادث المغتالة، وبتحصيل ما لا يستطيع نواله مع فرط رغبته؛ فزاد بالتفكير ضعفه جلاء لأنه يطمح به إلى تمنيات وفروض لا يستطيع تحصيلها لعجزه، على حد قول أبي الطيب:
وإذا كانت النفوس كباراً * تعبت في مرادها الأجسام
فاحتاج أفراد البشر إلى معونة بعضهم بعضاً؛ لتصل لهم من تفكيرهم وسعيهم قوةُ التعاضد والتوازر، فيبذل كلَّما
يستطيع بذله من كده أو من كسبه، عسى أن يحصل من مجموع سعيهم تحصيل معظم أماني الجميع، وبذلك التفكير والتعاضد امتاز البشر عن أصناف الحيوان.
لولا العقول لكان أدنى ضيغم * أدنى إلى شرف من الإنسان ii
وقد صار الإنسان بموجب هذا الاحتياج إلى التعاون والتكاتف مضطراً إلى اقتراب بعض أفراده من بعض، وإلى التكثر من هؤلاء المقتربين والمجتمعين، وإقامة بعضهم حيال بعض؛ ليجد كلٌّ عن احتياجه مَنْ يسارع إلى سد خلته؛ فاضطر إلى التجمع والإقامة، وهو المعبر عنه بالتمدن؛ المأخوذ من لفظ المدينة، الذي هو مشتق من فعلٍ مُماتٍ في اللغة العربية وهو فعل مدَن.
ثم إن هذا الخُلق الجِبِلِّي من شأنه أن يتدرج بهم في سلم الارتقاء، ولا يزال يغريهم نوال شيء بالتطلع إلى ما فوقه.
ثم إن هذا التمدن يفضي بالناس في غالب الأحوال إلى توارد الرغبات على شيء يكون الموجود منه لا يفي بإرضاء الجميع، أو إلى اختلافهم في وسائل السعي إلى ما يدفع عنهم ضرراً، أو يجلب إليهم نفعاً، فكانوا في اجتماعهم ذلك مَظِنَّةَ حدوثِ الخلاف بينهم، وكان ذلك الخلاف من شأنه أن يهيِّج ما فيهم من قوة الغضب، ويحمل بعضهم على مقارعة بعض؛ فيصير بعضهم سبب إتلاف مصالح بعض، وإفساد ما أصلحوه في تجمعهم بعد أن كان تجمعهم سبب تحصيل تلك المصالح؛ فيؤول اجتماعهم في الإهلاك والضلال على أن يكون عائداً على مقصدهم الأول بالإبطال؛ فلذلك لم يزل الساعون إلى إصلاحهم من الأنبياء والحكماء يدعونهم إلى الاستقامة، وينبهونهم على أن مراد الله منهم أن يكون مجتمعهم كاملاً، ومدينتهم فاضلة؛ ليكون لهم من تقويم أحوالهم ما يلائم أحسن تقويم خلقوا عليه، الدال على أن الله - تعالى - حين خلقهم على أحسن تقويم قد أراد أن يكونوا متصفين بكل وصف قويم.
وإنما يتضح كمال هذا التمدن إذا كان مظهر هؤلاء المتحدين كاملاً، ولا يكمل مظهرهم إلا بكمال أفرادهم، فإذا كملت أفرادهم كمل المجتمع المتركب منهم؛ لأن المركب من الصالحِ صالحٌ.
فليس المراد بالمدينة الفاضلة ما لولاه لهلك النوع؛ إذ قد ينتظم حال النوع انتظاماً ما - أي في الجملة - بمجرد صلاح قليل؛ فيسلم من الهلاك، ويعيش عيشاً بسيطاً، ولكنه لا يكون على حالة ملائمة لحال التقويم الجبلي الذي خلق عليه.
أودع خالق النوع - سبحانه - في جِبِلَّة أفراده عقلاً يهديهم إلى إيجاد وسائل قليلة لحفظ النوع كما قدمنا، ولكنه لما علم أن ذلك غير كاف في العروج بهم إلى معارج الكمال التي أُعدوا لها، ولا في الخروج عن مآزق قد يلقون أنفسهم فيها - قيض الله دعاة يدعونهم إلى الهدى، ويحذرونهم مواقع الردى، وهم العارفون؛ فمنهم أنبياء تولى الحقُّ إرشادَهم إلى ما فيه صلاح قومهم، ومنهم حكماء خصهم الله بعقول تفوق عقول عامة أقوامهم، وخص الفريقين بجلائل الصفات النافعة في إيصال الإصلاح إلى البشر غير مشوب ولا مؤرب(2)؛ فتظافر الفريقان وعملا على الأخذ بيد البشر في مزالق الضلال، ومهاوي السقوط، وانتشاله من مخالب الهلاك، وجعل بمقدار تخلقهم بأخلاق الكمال وجريهم على طريق الهدى مقدار عروجهم في المعالي في عالم الخلود الذي لا فناء يعتريه، ولا حقائق تقلب فيه.
وجماع هذا الصلاح هو صلاح الاعتقاد، وصلاح العمل، وقد جمع ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث مسلم عن أبي عمرة الثقفي، قال: "قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك، قال قل آمنت بالله ثم استقم".
ابتدأ أول دعاة الصلاح، وهو أول رسول أُرسل إلى البشر، نوح - عليه السلام - دعوته بتطهير العقيدة، ووجوب التوبة من الشرك، ولم يزدهم على ذلك، فعلمنا أن الله ابتدأ البشر بالترقي به إلى أُولى درجات الصلاح.
وكذلك جاء إبراهيم قومه بالدعوة إلى التوحيد وإعلانه، وإلى مكارم الأخلاق، ورحل في بلاد الله يبث دعوته الصالحة بين البشر.
ثم جاءت الرسل تترى، ما منهم إلا يأمر بالإصلاح العام، فقد قال هود لقومه [وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131)] الشعراء.
وقال صالح لثمود [إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ] هود: 88.
وقال شعيب لأهل مدين [وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا] الأعراف: 56.
وقرون بين ذلك كثير [مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ] غافر: 78.
وهؤلاء كلهم قد اقتصرت دعوتهم على تأسيس جماعة فاضلة، ثم اتسعت الدعوة في شريعة موسى اتساعاً يؤذن باقتراب استعداد البشر إلى تلقي التهذيب الكامل؛ فأخذ في تخطيط ما يصلح لأن يكون تأسيس مدينة فاضلة، ولكنه توفي ولم يقض إلا إصلاح الجماعة، إلا أنها كانت جماعة كبيرة، ثم كانت بعده أشكال كثيرة في سياسة بني إسرائيل؛ فكانت أمة فيها فضلاء كثيرون، وفيها دون ذلك.
وجاء دعاة كثيرون مختلطون: أنبياء وحكماء، مثل أنبياء بني إسرائيل حتى عيسى، ومثل لقمان، وذي القرنين وتبَّع، وهرمس الأكبر الحكيم المصري الذي قيل: إنه النبي إدريس، وبياس الحكيم اليوناني، وسولون المشرِّع اليوناني، ثم سقراط، وأفلاطون.
قال الحكيم الجليل يحيى السهروردي في حكمة الإشراق، وقطب الدين الشيرازي في شرحه(3) بعد أن ذكر أساتذة أرسطاليس: "ومن جملتهم جماعة من أهل السفارة - أي أهل الكتب السماوية وإصلاح الناس - مثل هرمس - أي إدريس - واسقليبوس - خادم هرمس، وهو أبو الأطباء(4) وغيرهم - وإنما سمي الثلاثة لأنهم من عظماء الأنبياء الجامعين بين الفضيلة النبوية، والحكمة الفلسفية" اهـ.
وهؤلاء الحكماء قد دعوا، وسعوا إلى إيجاد المدينة الفاضلة، وكان أكثرهم تنويهاً بها هو أفلاطون.
فقد رام سولون(5) الحكيم إيجاد المدينة الفاضلة بما شرع لأهل أثينا من قوانين العدل، ونظام الشورى؛ وقال بيتاقوس الحكيم: "إذا أراد الملك ضبط المملكة وجب أن يكون هو وخاصته وجنوده مطيعين للقانون مثل سائر الرعية".
ورام أفلاطون إيجاد المدينة الفاضلة بضبط قواعد تكوينها.
وفيهم من كان انصرافه إلى إيجاد المدينة الفاضلة أكثر من انصرافه إلى إعداد أمة فاضلة لها، مثل سولون، ومن كان انصرافهم إلى إصلاح النفوس لإعداد أمة فاضلة للمدينة الفاضلة، مثل سقراط وأفلاطون.
كانت شكايات من الرسل والحكماء من سوء تلقي أقوامهم لنصيحتهم أوضح دليل على أن المدينة الفاضلة لم تلتئم، فما من الرسل السالفين إلا قائل [إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ] الشعراء: 117، أو قائل [لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ] الأعراف: 79، أو قائل [فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِي مِنْ الْمُؤْمِنِينَ] الشعراء: 118، أو قائل [فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ] المائدة: 25.
وربما فارق كثير منهم أوطانهم، إذ أبوا أن يروا فيها الفساد، فقد قال إبراهيم [إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ] الصافات: 99، وقال لوط [إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ] العنكبوت: 26، وخرج الحكيم سولون من أثينا بعد أن أقام لها الشرائع والعدل، والحكومة الشورية، فأفسد أهلها ذلك، وولوا عليهم الملك (بيزاستراتث) وأخذ (يوجينوس) الحكيم مصباحاً في يده في الصباح، وجعل يجول به في شوارع أثينا كأنه يفتش على شيء، فإذا سئل: على ماذا تفتش؟ قال: لعلي أظفر برجل.
بقيت المدينة الفاضلة مرتسمة في خيال الحكماء، فلم يزالوا يدعون، ويبتغون تأسيسها، ولكنهم لم يحصلوا على طِلْبَتِهم المنشودة؛ ذلك أن المدينة الفاضلة يلزم أن يكون رئيسها حكيماً صالحاً عارفاً، وأن يكون أصحابه أهلُ الحل والعقد فيها حكماءَ مثلَ رئيسهم، وأن يكون سكانها أفاضلَ قابلين لسياسة الحكيم مطيعين له، غير مفسدين لما يصلحه.
وقد كادت مدينة أثينا في زمن سولون أن تكون المدينة الفاضلة، وقد كان سولون يقول: "المملكة البالغة غاية الكمال هي التي لا يقبل أهلها الذل والظلم، وينتصرون للمظلوم كما ينتصرون لأنفسهم".
إلا أنها لم تحصل على عامة مطيعين لرؤسائهم إلا في فترات قليلة من الزمن؛ فإن سولون مؤسس شرائع أثينا، ومنظم حكومتها الجمهورية لم يلبث أن فارق أثينا، وسكن في بلاد مصر، وأبى الرجوع إلى بلده مع شدة رغبة الملك (بيزاستراتث) في رجوعه، والانتفاع بحكمته، ودارت بينهما في ذلك مراسلة لها شأنها في التاريخ.
وكذلك أوشكت أن تكون مقدونية مدينة فاضلة في زمن مُلْك اسكندر ابن فيليبوس، ووزارة أرسطاليس له، غير أن ذلك لم يخلص لهما، ولم يلبث أن غضب ارسطاليس على الاسكندر، وفارقه فراقاً لا لقاء بعده.
وقد اعترف أفلاطون بعده بقرون بأن ليس في نظام الجمهورية في أثينا في زمانه ما يجعلها ملائمة للحكمة والفضيلة التامة.
واضطرب العالم عقب ذلك اضطراباتٍ عامةً في كل مكان؛ فلم يتأتَ إيجادُ المدينة الفاضلة.
كان الرسلُ - كما قلنا - أولَ المصلحين للبشر، وأعظمَ المصلحين، وكان الحكماء من أتباع الرسل ومن غيرهم يظهرون في فترات من التاريخ يكملون الإصلاح، ويبرهنون عليه، فرجعت محاولة إيجاد ما يسمى بالمدينة الفاضلة إلى دعوة الرسل؛ فلا جرم أن يكون أعظمُ الرسل الذي جاء بالدين الخالص القيم، والذي هو المقصدُ من الإصلاح الأخيرِ للبشر [إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ] آل عمران: 19، والذي كانت الأديانُ الماضيةُ معه بنسبة مقدمة الجيش للجيش، [وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ] الأنعام: 92، والذي كانت دعوتُه عامةً لسائر البشر، والذي كان الرسول الجائي به هو أفضل الرسل - لا جرم أن يكون ذلك الرسولُ هو الذي ادُّخر له تأسيس المدينة الفاضلة في جملة ما ادُّخر له من الفضائل الجمة.
جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - يدعو إلى إصلاح البشر قاطبة، وشملت دعوتُه علاج إصلاح الأفراد وإصلاح المجموع؛ فكان مرماها إيجادَ المدينة الفاضلة، وإعدادَ أمةٍ فاضلة لها.
ولم تشتمل دعوة رسول ممن جاء قبله على ما اشتملت عليه دعوته من أصول نظام الاجتماع وتفاصيله؛ فبقي بمكة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى الدين، ويصلح نفوس الذين آمنوا به والتفوا حوله، فكانت في مكة جماعة فاضلة هي زَرْع المدينة الفاضلة.
فلما تهيأت للدعوة ساعةُ الانتشار، وتردد صداها في معظم بلاد العرب، وأصغت لها آذان السامعين، وانفتحت أعين الناس إليها - ألهم اللهُ الأوسَ والخزرج أهلَ مدينة يثرب إلى الدخول في الإسلام إلهاماً خارقاً للعادة؛ فأصبح سكان تلك المدينة كلهم مسلمين، وبذلوا أنفسهم وأموالهم ووطنهم لنصر هذا الدين؛ فأذن الله لرسوله وللمسلمين معه في الهجرة إلى هذه المدينة؛ فانتقل إليها الرسول بمن معه من المسلمين بمكة، ودعا اسمها (طيبة) وخصها الله -تعالى- بشرف أن تكون محققةً أمنيةَ المدينةِ الفاضلة.
ومن العجب أن الله ألهم الناس إلى أن يدعوا هذه البلدة باسم (المدينة) وأنساهم اسم يثرب واسم طيبة أيضاً؛ ليكون ما جرى على الألسنة رمزاً إلهياً لطيفاً إلى أنها المدينة المقصودة، والضالة المنشودة.
دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة (يثرب) ودخلها خمسون رجلاً من أصحابه المهاجرين، وهم المسلمون الأولون، وكانت المدينة تحتوي على زهاء خمسة آلاف رجل من الأوس والخزرج وأحلافهم، كانوا مسلمين إلا قليلاً منهم لا يبلغون مائة رجل.
فتلك مدينة سكانها أفاضلُ أهلِ عصرهم، قد تطهرت نفوسهم بإقبالهم على الخير، والتزكية بمحض الاختيار.
إن قوام المدينة الفاضلة يتقوَّم من صلاح الأفراد في خاصتهم، وصلاح المجتمع المتقوِّم منهم في حال معاملتهم؛ ومن سهولة طباعهم مع المسالمين، ومن الشدة والذب عن حوزتهم أمام العدو، ومن سياسة تدبير جماعتهم؛ فإذا تقومت هاتِهِ الأصولُ في المدينة حصل فيها الأمن، وهو جالب جميع الخيرات لكل أهل المدينة، وجاعلها أفضل مدينة.
لا جرم أن المدينة كالجسد؛ فكما يتركب الجسد من الأعضاء والجوارح فكذلك تتركب المدينةُ من آحاد الناس، وإن سلامة المدينة وفضلها كصحة المزاج؛ فكما لا يصح المزاج إلا بسلامة جميع أجزائه كذلك لا تصلح المدينة إلا بصلاح جميع أفرادها، وكما أن بعض أجزاء الجسم أجدر بكمال السلامة ودوامها من بعض الأجزاء التي قد تشتكي، فتزول شكواها سريعاً عند سلامة البقية، وذلك البعض هو الأعضاء الرئيسية كالقلب والدماغ والرئة - كذلك المدينة تتطلب صلاح ولاة أمورها أكثر مما تطلب صلاح عامتها، وإن صلاح ولاة الأمور يعود بصلاح العامة إذا عرض لها فسادٌ ما بخلاف العكس، كما تعود صحة الأعضاء الرئيسية بسلامة الجوارح والأعضاء إذا اشتكت وجعاً بخلاف العكس؛ فكان صلاح المدينة يتطلب صلاح ولاة الأمور، وصلاح أعوانهم، وصلاح عامة الناس على تفاوت في المقدار المطلوب من ذلك الصلاح.
ولنلتفت لفتة تاريخية صادقة إلى حالة مدينة الرسول وحالة مجتمعها، ونقارن بين تلك الحالة وبين الصفة التي عينت للمدينة الفاضلة؛ حتى نرى تحقق معنى المدينة الفاضلة في مدينة الرسول - عليه السلام -.
فأما ولاة الأمور فيها فإن سيد ولاة الأمور بالمدينة هو الرسول المؤيد بالعصمة، المسيَّر بالوحي والتوفيق الإلهيين، وهما ملاك الفضائل كلها، وحسبك برأس المدينة أن يكون بهذه المثابة؛ فإن الحكماء اشترطوا للمدينة الفاضلة أن يحكمها الحكماء المتصفون بصفات الكمال، وقد جمعها أفلاطون في عشر صفات، وهي: المعرفة، والإعراض عن التعلق بالدنيا، والصدق، ومحبة اللذات الروحية، والزهد، والعفة، والإقبال على الآخرة، والشجاعة، والإنصاف، وصحة العقل.
وقد كانت هذه الصفات كمالات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت العصمة فوقها كلها.
وأما أعضاء رأس المدينة وأصحابه فشرطهم المعرفة، أي أن يكونوا من العارفين، والعارف فسره الشيخ ابن سينا بأنه هو الذي يريد الحق الأول -سبحانه- لذاته لا لشيء آخر، ولا يُؤْثِر شيئاً عليه، والعارف شجاع جواد، صفّاح عن الذنوب، نسّاء للأحقاد.
وإن أصحاب رسول الله وبطانته هم أولئك المهاجرون الذين نبذوا الشرك وآثاره كلَّها عن محض اختيار، ومحبة للخير، وتخلَّقوا من أجل ذلك بأخلاق الإسلام، وخاصة الأنصار وأعيانهم الذين رغبوا في الإسلام لما دعاهم إليه رسول الله يومي العقبتين؛ فلم يترددوا في قبوله، على ما هم عليه يومئذ من كثرة ومنعة؛ فكانوا لاحقين بالمهاجرين في إقبالهم على الحق ونبذ الضلال، وكان سادتهم وأهل الرأي منهم ملازمين لرسول الله؛ للاقتباس منه وتنفيذ أوامره.
ثم إن الرسول آخى بين المهاجرين وبين زهاء خمسين من الأنصار بقدر المهاجرين؛ ليحصل من تلك المؤاخاة تماثل في الأخلاق والفضائل، وقد حكى القرآن حالهم الجامعة للفضائل، ونبذ الرذائل بقوله [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً] الفتح: 29.
وفي الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "خير القرون قرني" وهم أصحابه الذين رأوه وآمنوا به، لأن شرف ذلك القرن إنما كان به وبهم؛ إذ كان آخرهم وفاة أنس بن مالك وسهل بن سعد الساعدي، توفيا في أوائل العشرة الأخيرة من القرن الأول من الهجرة.
وأما عامة أهل المدينة فهم المؤمنون السابقون بعد المهاجرين، كما وصفهم الله - تعالى - [وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ] التوبة: 100.
وهم أصحاب رسول الله الذين سكن بين ظهرانيهم، وتملَّوا من طلعته المباركة كل يوم، وشهدوا هديه، وأشرقت عليهم أنواره، ففيهم أشرقت الشريعة؛ فصلح اعتقادهم، وصلح عملهم، وصلح خُلُقُهم، ولم يزل رسول الله يبين لهم المكارم، ويحذرهم المآثم، حتى أصبحوا خيرة أهل الأرض.
في الصحيح عن عبادة بن الصامت أنه قال: "بايعنا رسول الله على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم".
فاستملوا صحة الإيمان، وفضل العمل، وحسن الخلق، ومحبة العدل.
يحق لأهل المدينة أن يكونوا أهل بأس شديد على أعدائهم، وأن يكونوا فضلاء؛ أما شدتهم على أعدائهم فلأنهم جند المدينة يدفعون عنها، وذلك وصفٌ تُحْفَظ به المدينة من تَطَرُّقِ أهل الفساد إليها، فإذا تطرقوها أفسدوا بهجتها، كما قال - تعالى - [قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها].
تريد ما هو معهود من ملوك الجور.
وهذه الشدة أساسها الشجاعة، وقد عرف أهل المدينة بالشجاعة والبأس، كما خلدت لهم حرب بعاث أجمل الذكر في الشجاعة.
ومن فضائل شجاعة أهل المدينة في الجاهلية أنها شجاعة فاضلة؛ لأنهم ما كانوا يغيرون على القبائل الآمنة، ولكنهم كانوا يذبون عن مدينتهم من كل طارق بسوء؛ فكانت مدينتهم من أحصن مدن العرب في الجاهلية، واشتهرت بسورها، وبحصونها المنيعة المسماة بالآطام؛ يتحصنون بها إذا دهمهم العدو، وكانت تحف بها بساتين النخيل التي تمونهم إذا حاصرهم العدو، على أن تلك الحوائط كانت فيها آطام(6) لهم للدفاع عن ثمارهم.
فأما المهاجرون فمن أهل مكة، وأهل مكة وإن لم تكن لهم سابقة في الحرب؛ إذ كان العرب مسالمين لهم، إلا أن الفئة الذين آمنوا منهم قد أكسبهم الإيمان واليقين بالله؛ والغيرة على الحق، والحنق على المشركين - إقداماً على الانتصار للدين، ظهرت بوادره في صبرهم واستخفافهم بعداوة أعدائهم.
وقد أيَّد الله المسلمين في مدينتهم بعصمة الهيئة من أن يتطرَّقها ما يفسد أهلها. ففي الحديث أن "على أنقاب المدينة ملائكة لا يدخلها الطاعون، ولا الدجال" وفي الحديث "المدينة كالكير تنفي خبثها، وينصع طيبه".
وأما كونهم فضلاء فلكي لا يختل فضل المجموع باختلال فضيلة أجزائه، وقد أشرنا على فضل المجموع الذي تتركب منه مدينة الرسول آنفاً.
ونريد أن ننبه هنا على أن أهل المدينة الفاضلة لا يكونون في الفضل سواسية، ولكن يشترط أن يكون الفضل متأصلاً في نفوسهم، وجماع ذلك هو الطاعة لولي أمرهم، وقد كان المسلمون في الطاعة للرسول أفضل مثل لأمة في طاعة قائدها؛ فكانوا إذا أمرهم رسول الله أمراً في الشؤون العامة؛ والقضايا الخاصة، امتثلوا، سواء وافق مرغوبهم أم لا.
قال الله - تعالى - [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ] الأحزاب: 36.
وقال سهل بن حنيف: لقد رأيتُنا يوم أبي جندل - يوم صلح القضية - ولو نستطيع أن نرد على رسول الله أمره لفعلنا، والله ورسوله أعلم.
وقال - تعالى -: [فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً] النساء: 65.
أراد بالحرج المنفي حرجَ توهمِ أن يكون قضاءُ الرسول غيرَ عادل.
لقد يندر أن يكون في المدينة الفاضلة سفلة وأراذل؛ لأن المجتمع البشري لا يخلص جميعه من ذوي العاهات النفسية، إلا أن وجودهم لا يضر المجتمع؛ لأنهم مغمورون بالصالحين؛ ففسادهم يقتصر على أنفسهم، ثم يرجى لهم الصلاح بتأثير الوسط عليهم؛ فقد كان في المدينة المنافقون، وعن ابن عباس كانوا ثلاثمائة من الرجال، ومائة وسبعين من النساء؛ فانقرض معظمهم؛ إذ كانوا كلهم شيوخاً إلا قيس بن عمرو بن سهل المختلف في بقائه، ومنهم من تاب وحسن إسلامه مثل ثعلبة بن حاطب، ومتعب بن قشير، ومنهم من بقي على نفاقه وقد عد بعضهم من بقي على النفاق اثنين وأربعين.
وقد حدثت في المدينة في حياة الرسول أحداث قليلة، منها ثلاثة حوادث في السرقة، وحادثان أو ثلاثة في الزنا، وحوادث قليلة في شرب الخمر، وثلاثة حوادث في القتل، على أن بعض هذه الحوادث منسوب إلى اليهود، ونوازل قليلة في الخديعة والغصب والجراح مما لا يخلو من مثله مجتمع بشري.
وكل ذلك إذا عرض في المدينة الفاضلة لا يكدر صفاء المدينة، لأن الصلاح الغالب يغطي على تلك العوارض النادرة؛ فَوِزَانُ ذلك وِزَانُ ما يعرض للجسم السليم من صداع أو انحراف مزاج، ثم لا يلبث الجسم أن يدفع ذلك عنه، ويسرع العود إلى معتاده من السلامة.
ولا تخلو المدينة الفاضلة - أيضاً - من العوارض الخفية اللازمة للاجتماع والمعاشرة، مثل ما ينشأ بين بعض الأزواج من عدم الملاءمة في المعاشرة، وما يعرض بين الشركاء والجيران من النزاع، وما يعرض بين الناس من الحوادث كالجراح الخفيفة والدعاوي.
كل ذلك لا يقدح في فضل المدينة إذا كان العدل قائماً، والقضاء نافذاً، وكانت نفوس أهلها مطيعة لما تقضى به العدالة، وقد قال الله - تعالى -: [مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ] التوبة: 120.
تحتاج المدينة الفاضلة إلى الاستكثار من الأفاضل فيها، حتى تعتضد عزتهم النفسانية بالعزة الجثمانية، وإن كانت العزة الجثمانية في الدرجة الثانية كما قال السموأل:
وما ضرّنا أنا قليل وجارنا * عزيز وجار الأكثرين ذليل
يريد ما ضرنا القلة إذا كنا أعزاء؛ لأن عزةَ الجار هنا كناية عن عزة من أجاره، ومن أجل هذا قصد الإسلام إزواء المؤمنين كلهم إلى المدينة، فكانت الهجرة إليها واجبة على المسلمين الذين يسلمون بمكة.
قال الله - تعالى -: [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجَرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا] الأنفال: 72.
وقال: [إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98)]النساء.
إلا من أذن له النبي- صلى الله عليه وسلم -في الالتحاق بأفقه، مثل الأعرابي الذي قال له: ويلك إن الهجرة شأنها شديد، ثم قال له: اعمل من وراء البحار.
وقد كان الأعراب النازلون حول المدينة من مزينة وجهينة وأشجع وغفار معدودين كالنازلين بالمدينة، ولما فتحت مكة نسخ حكم الهجرة.
تحتاج المدينة الفاضلة إلى سلامة سكانها من الآفات الجسدية؛ ليتم لهم التمتع بالصحة، فيكونوا أهل مقدرة على الأعمال العظيمة، ويطولَ الانتفاع بفضلهم.
وقد متع الله المدينة بهذه النعمة بدعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد كانت المدينة مشهورة بالحمى المستوبئة قد اعتادها سكانها، ولا يطيقها من وفد عليها؛ فلما قدم المهاجرون أصابت الحمى كثيراً منهم، منهم أبو بكر الصديق وبلال وعائشة، فدعا النبي ربه أن تنقل حماها إلى الجحفة، واستجيب له، فما بقيت الحمى المستوبئة تصيب سكان المدينة وقد دعا لها رسول الله بأن لا يدخلها الطاعون؛ فلم يدخل المدينة قط، ولا تدخلها أبداً إن شاء الله.
وإن جدوى المدينة الفاضلة على المجتمع الإسلامي أنها إذا قامت على الفضيلة والعدالة كانت قدوة المجتمع كله؛ إذ هي قلبه، وبصلاح القلب صلاح الجسد كله؛ فتكون هي المرجعَ عند اضطراب الناس، وهي الآخذةُ على يد كل من يحاول فساداً في المجتمع.
ولقد يسر الله لمدينة الرسول هذه الخصلة الكاملة؛ فصارت قدوة الإسلام مدة قيام الخلافة فيها، ثم أخذ أمرها في اضطراب بعد الفتنة التي أثارها الثائرون على عثمان - رضي الله عنه - فكانت تلك الفتنة أول بوارق اضطراب الحكومة الإسلامية؛ فبئست فئة الفئة التي أثارت تلك المصيبة.
ومن أجل هذا قُصِدَتْ أن تبقى مدينة الرسول مدينة فاضلة، فَخُصَّت بمزايا أشرنا إلى بعضها آنفاً، ثم حيطت بأن جعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرماً، وبدعائه لها بقوله "من أحدث فيها أوآوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدل".
ولذلك أمر رسول الله بتعمير المدينة، وكره أن تعرى المدينة، وقال لبني سلمة لما أرادوا أن ينتقلوا بالسكنى إلى قرب المسجد النبوي: "يا بني سَلِمة ألا تحتسبون خطاكم؟".
وفي الموطأ عن سفيان بن أبي زهير قال: سمعت رسول الله يقول: "تفتح اليمن فيأتي قوم يبِسّون(7)، فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتفتح العراق فيأتي قوم يبِسّون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وتفتح الشام فيأتي قوم يبِسّون فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون".
28/3/1427هـ
________________________________________
(1) الهداية الإسلامية، الجزء العاشر/ المجلد التاسع/ ربيع الآخر 1356هـ - يونيو 1937م، ص578-594، ولعلك - أيها القارئ - لا تكاد تظفر بمثل هذا المقال في بابه (م).
(2) لعل مراده أنه خالص لا يداخله ريبة، أو شيء من المآرب الخاصة الدنيوية (م).
(3) ورقة 8 من شرح حكمة الإشراق لقطب الدين الشيرازي في شرح الديباجة (مخطوطة).
(4) هو واضع علم الطب عند اليونانيين، فتلقبه بأبي الأطباء إما لأن مؤسس الشيء يدعى أباً له، وإما لأن معظم الأطباء في العصور الأولى كان من ذريته، وكلا الوجهين أمر واقع.
(5) سولون هو حكيم يوناني من أهل أثينا، ولد في حدود سنة 640 قبل المسيح؛ كان من أساطين الحكمة في السياسة والتشريع، وتوفي وعمره ثمانون سنة بجزيرة قبرص.
(6) الآطام: بالمد جمع أطم بضم الهمزة وضم الطاء المهملة: الحصن بلسان أهل المدينة.
(7) يبسون بكسر الباء الموحدة وتشديد السين المهملة مضارع بسّ بمعنى سار.